قال ابن القيم :
((واختلف العلماء هل القلم أول المخلوقات أو العرش؟ على قولين ذكرهما الحافظ أبو يعلى الهمداني. أصحهما أن العرش قبل القلم لما ثبت في الصحيح من حديث عبد الله بن عمر قال قال رسول الله قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف عام عرشه على الماء فهذا صريح أن التقدير وقع قبل خلق العرش والتقدير وقع عند أول خلق القلم لحديث عبادة هذا ولا يخلو قوله إن أول ما خلق الله القلم إلى آخره إما أن يكون جملة أو جملتين فإن كان جملة وهو الصحيح كان معناه أنه عند أول خلقه قال له اكتب كما في لفظ أول ما خلق الله القلم قال له اكتب بنصب أول والقلم فإن كانا جملتين وهو مروي برفع أول والقلم فيتعين حمله على أنه أول المخلوقات من هذا العالم ليتفق الحديثان إذ حديث عبد الله بن عمر صريح في أن العرش سابق على التقدير والتقدير مقارن لخلق القلم وفي اللفظ الآخر لما خلق الله القلم قال له اكتب))
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
(( وقد تكلم علماء المسلمين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم في أول هذه المخلوقات على قولين حكاهما الحافظ أبو العلاء الهمداني وغيره أحدهما أنه هو العرش والثاني أنه هو القلم ورجحوا القول الأول لما دل عليه الكتاب والسنة أن الله تعالى لما قدر مقادير الخلائق بالقلم الذي أمره أن يكتب في اللوح كان عرشه على الماء فكان العرش مخلوقا قبل القلم قالوا الآثار المروية أن أول ما خلق الله القلم معناها من هذا العالم وقد اخبر الله تعالى أنه خلقه في ستة أيام فكان حين خلقه زمن يقدر به خلقه ينفصل إلى أيام فعلم أن الزمان كان موجودا قبل أن يخلق الله الشمس والقمر ويخلق في هذا العالم الليل والنهار ))
وأيضا اختلف العلماء في أيها خلق أولا فقال قائلون خلق القلم قبل هذه الأشياء كلها وهذا هو اختيار ابن جرير وابن الجوزي وغيرهما قال ابن جرير وبعد القلم السحاب الرقيق واحتجوا بالحديث الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن أول ما خلق الله القلم ثم قال له اكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة) لفظ أحمد وقال الترمذي حسن صحيح غريب والذي عليه الجمهور فيما نقله الحافظ أبو العلاء الهمداني وغيره (أن العرش مخلوق قبل ذلك) وهذا هو الذي رواه ابن جرير من طريق الضحاك عن ابن عباس كما دل على ذلك الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه حيث قال حدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن السرج حدثنا ابن وهب أخبرني أبو هانئ الخولاني عن أبي عبد الرحمن الجيلي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة قال وعرشه على الماء) .
قالوا فهذا التقدير هو كتابته بالقلم المقادير وقد دل هذا الحديث أن ذلك بعد خلق العرش فثبت تقديم العرش على القلم الذي كتب به المقادير كما ذهب إلى ذلك الجماهير ويحمل حديث القلم على أنه أول المخلوقات من هذا العالم ويؤيد هذا ما رواه البخاري عن عمران بن حصين قال قال أهل اليمن لرسول الله صلى الله عليه وسلم جئناك لنتفقه في الدين ولنسألك عن أول هذا الأمر فقال (كان الله ولم يكن شيء قبله وفي رواية معه وفي رواية غيره وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء وخلق السموات والأرض وفي لفظ ثم خلق السموات والأرض فسألوه عن ابتداء خلق السموات والأرض ولهذا قالوا جئناك نسألك عن أول هذا الأمر فأجابهم عما سألوا فقط ولهذا لم يخبرهم بخلق العرش) كما أخبر به في حديث أبي رزين المتقدم قال ابن جرير وقال آخرون بل خلق الله عز وجل الماء قبل العرش رواه السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا إن الله كان عرشه على الماء ولم يخلق شيئا غير ما خلق قبل الماء وحكى ابن جرير عن محمد بن إسحاق انه قال أول ما خلق الله عز وجل النور والظلمة ثم ميز بينهما فجعل الظلمة ليلا أسود مظلما وجعل النور نهارا مضيئا مبصرا قال ابن جرير وقد قيل إن الذي خلق ربنا بعد القلم الكرسي ثم خلق بعد الكرسي العرش ثم خلق بعد ذلك الهواء والظلمة ثم خلق الماء فوضع عرشه على الماء
والله سبحانه وتعالى أعلم
وأخر دعوانا أن الحمد لله
وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه و التابعين